فصل: سنة ست وستين وأربعمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة أقيمت الدعوة العباسية بالبيت المقدس.
وفيها توفي الأمير ليث بن منصور صدقة بن الحسين بالدامغان، والشريف أبو الغنائم عبد الصمد بن علي بن محمد بن المأمون ببغداد، وكان موته في شوال، ومولده سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، وكان عالي الإسناد في الحديث.
وفيها، في ذي الحجة، توفي الشريف أبو الحسين محمد بن علي بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله، المعروف بابن الغريق، وكان يسمى راهب بني العباس، وهو آخر من حدث عن الدارقطني وابن شاهين وغيرهما، وكان موته ببغداد.
وفيها قتل ناصر الدولة أبو علي الحسين بن حمدان بمصر، قتله الدكز التركي، وقد تقدم شرحه مستوفى.
وفيها توفي الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري، النيسابوري، مصنف الرسالة وغيرها، وكان إماماً، فقيهاً، أصولياً، مفسراً، كاتباً، ذا فضائل جمة، وكان له فرس قد أهدي إليه، فركبه نحو عشرين سنة، فلما مات الشيخ لم يأكل الفرس شيئاً فعاش أسبوعاً ومات.
وفيها أيضاً توفي علي بن الحسن بن علي بن الفضل أبو منصور، الكاتب المعروف بابن صر بعر، وكان نظام الملك قال له أنت ابن صر در، لا صر بعر، فبقي ذلك عليه، وهو من الشعراء المجيدين، وهجاه ابن البياضي فقال:
لئن نبز الناس قدماً أباك، ** فسموه من شعره صر بعرا

فإنك تنظم ما صره ** عقوقاً له، وتسميه شعرا

وهذا ظلم من ابن البياضي، إنه كان شاعراً محسناً، ومن شعر ابن صر در قوله:
تزاورن عن أذرعات يمينا، ** نواشز ليس يطقن البرينا

كلفن بنجد، كأن الرياض ** أخذن لنجد عليها يمينا

وأقسمن يحملن إلا نحيلا ** إليه، ويبلغن إلا حزينا

فلما استمعن زفير المشوق، ** ونوح الحمام، تركن الحنينا

إذا جئتما بانة الواديين، ** فأرخو النسوع، وحلوا الوضينا

فثم علائق من أجلهن، ** ملاء الدجى والضحى قد طوينا

وقد أنبأتهم مياه الجفون ** بأن بقلبك داء دفينا ثم دخلت:

.سنة ست وستين وأربعمائة:

.ذكر تقليد السلطان ملكشاه السلطنة والخلع عليه:

في هذه السنة، في صفر، ورد كوهرائين، إلى بغداد من عسكر السلطان، وجلس له الخليفة القائم بأمر الله، ووقف على رأسه ولي العهد المقتدي بأمر الله، وسلم الخليفة إلى كوهرائين عهد السلطان ملكشاه بالسلطنة، وقرأ الوزير أوله، وسلم إليه أيضاً لواء عقده الخليفة بيده، ولم يمنع يومئذ أحد من الدخول إلى دار الخلافة، فامتلأ صحن السلام بالعامة، حتى كان الإنسان تهمه نفسه ليتخلص، وهنأ الناس بعضهم بعضاً بالسلامة.

.ذكر غرق بغداد:

في هذه السنة غرق الجانب الشرقي وبعض الغربي من بغداد.
وسببه أن دجلة زادت زيادة عظيمة، وانفتح القورج عند المسناة المعزية، وجاء في الليل سيل عظيم، وطفح الماء من البرية مع ريح شديدة، وجاء الماء إلى المنازل من فوق، ونبع من البلاليع والآبار بالجانب الشرقي، وهلك خلق كثير تحت الهدم، وشدت الزواريق تحت التاج خوف الغرق.
وقام الخليفة يتضرع ويصلي، وعليه البردة، وبيده القضيب، وأتى ايتكين السليماني من عكبرا، فقال للوزير: إن الملاحين يؤذون الناس في المعابر فأحضرهم، وتهددهم بالقتل، وأمر بأخذ ما جرت به العادة.
وجكع الناس، وأقيمت الخطبة للجمعة في الطيار مرتين، وغرق من الجانب الغربي مقبرة أحمد، ومشهد باب التبن، وتهدم سوره، فأطلق شرف الدولة ألف دينار تصرف في عمارته، ودخل الماء من شبابيك البيمارستان العضدي.
ومن عجيب ما يحكى في هذا الغرق أن الناس، في العام الماضي، كانوا قد أنكروا كثرة المغنيات والخمور، فقطع بعضهم أوتار عود مغنية كانت عند جندي، فثار به الجندي الذي كانت عنده، فضربه، فاجتمعت العامة ومعهم كثير من الأئمة منهم أبو إسحاق الشيرازي، واستغاثوا بالخليفة، وطلبوا هدم المواخير والحانات وتبطيلها، فوعدهم أن يكاتب السلطان في ذلك، فسكنوا وتفرقوا.
ولازم كثير من الصالحين الدعاء بكشفه، فاتفق أن غرقت بغداد، ونال الخليفة والجند من ذلك أمر عظيم، وعمت مصيبته الناس كافة، فرأى الشريف أبو جعفر بن أبي موسى بعض الحجاب الذين يقولون: نحن نكاتب السلطان، ونسعى في تفريق الناس، ويقول: اسكنوا إلى أن يرد الجواب. فقال له أبو جعفر: قد كتبنا، وكتبتم، فجاء جوابنا قبل جوابكم، يعني أنهم شكوا ما حل بهم إلى الله تعالى، وقد أجابهم بالغرق، قبل ورود جواب السلطان.

.ذكر ملك السلطان ملكشاه ترمذ والهدنة بينه وبين صاحب سمرقند:

قد ذكرنا أن خاقان التكين صاحب سمرقند ملك ترمذ بعد قتل السلطان ألب أرسلان، فلما استقامت الأمور للسلطان ملكشاه سار إلى ترمذ وحصرها، وطم العسكر خندقها، ورماها بالمجانيق، فخاف من بها، فطلبوا الأمان فأمنهم، وخرجوا منها وسلموها.
وكان بها أخ لخاقان التكين، فأكرمه السلطان، وخلع عليه وأحسن إليه وأطلقه، وسلم قلعة ترمذ إلى الأمير ساوتكين، وأمره بعمارتها وتحصينها وعمارة سورها بالحجر المحكم، وحفر خندقها وتعميقه، ففعل ذلك.
وسار السلطان ملكشاه يريد سمرقند، ففارقها صاحبها، وأنفذ يطلب المصالحة، ويضرع إلى نظام الملك في إجابته إلى ذلك، ويعتذر من تعرضه إلى ترمذ، فأجيب إلى ذلك، واصطلحوا، وعاد ملكشاه عنه إلى خراسان، ثم منها إلى الري، وأقطع بلخ وطخارستان لأخيه شهاب الدين تكش.

.ذكر عدة حوادث:

فيها توفي زعيم الدولة أبو الحسن بن عبد الرحيم بالنيل فجأة، وله سبعون سنة، وقد تقدم من أخباره ما فيه كفاية.
وفيها توفي إياز أخو السلطان ملكشاه، وكفي شره كما كفي شر عمه قاورت بك.
وفيها، في ربيع الأول، توفي القاضي أبو الحسين بن أبي جعفر السمناني حمو قاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني، وولي ابنه أبو الحسن ما كان إليه من القضاء بالعراق والموصل، وكان مولده سنة أربع وثمانين وثلاثمائة بسمنان، وكان هو وأبوه من المغالين في مذهب الأشعري، ولأبيه فيه تصانيف كثيرة، وهذا مما يستطرف أن يكون حنفي أشعرياً.
وفيها، في جمادى الآخرة، توفي عبد العزيز بن أحمد بن محمد بن علي أبو محمد الكتاني، الدمشقي، الحافظ، وكان مكثراً في الحديث، ثقة، وممن سمع منه الخطيب أبو بكر البغدادي. ثم دخلت:

.سنة سبع وستين وأربعمائة:

.ذكر وفاة القائم بأمر الله وذكر بعض سيرته:

في هذه السنة، ليلة الخميس ثالث شعبان، توفي القائم بأمر الله أمير المؤمنين، رضي الله عنه، واسمه عبد الله أبو جعفر بن القادر بالله أبي العباس أحمد ابن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد.
وكان سبب موته أنه كان قد أصابه شرى، فافتصد، ونام منفرداً، فانفجر فصاده، وخرج منه دم كثير ولم يشعر، فاستيقظ وقد ضعف وسقطت قوته، فأيقن بالموت، فأحضر ولي العهد، ووصاه بوصايا، وأحضر النقيبين وقاضي القضاة وغيرهم مع الوزير ابن جهير، وأشهدهم على نفسه أنه جعل ابن ابنه أبا القاسم عبد الله بن محمد بن القائم بأمر الله ولي عهده.
ولما توفي غسله الشريف أبو جعفر بن أبي موسى الهاشمي، وصلى عليه المقتدي بأمر الله.
وكان عمره ستاً وسبعين سنة وثلاثة أشهر وخمسة أيام، وخلافته أربعاً وأربعين سنة وثمانية أشهر وأياماً، وقيل كان مولده ثامن عشر ذي الحجة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، وعلى هذا يكون عمره ستاً وسبعين سنة وتسعة أشهر وخمسة وعشرين يوماً.
وأمه أم ولد تسمى قطر الندى، أرمينية، وقيل رومية، أدركت خلافته، وقيل اسمها علم، وماتت في رجب سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة.
وكان القائم جميلاً، مليح الوجه، أبيض، مشرباً حمرة، حسن الجسم، ورعاً، ديناً، زاهداً، عالماً، قوي اليقين بالله تعالى، كثير الصبر، وكان للقائم عناية بالأدب، ومعرفة حسنة بالكتابة، ولم يكن يرتضي أكثر ما يكتب من الديوان، فكان يصلح فيه أشياء، وكان مؤثراً للعدل والإنصاف يريد قضاء حوائج الناس، لا يرى المنع من شيء يطلب منه.
قال محمد بن علي بن عامر الوكيل: دخلت يوماً إلى المخزن، فلن يبق أحد إلا أعطاني قصة، فامتلأت أكمامي منها، فقلت في نفسي: لو كان الخليفة أخي لأعرض عن هذه كلها، فألقيتها في بركة، والقائم ينظر ولا أشعر، فلما دخلت إليه أمر الخدم بإخراج الرقاع من البركة، فأخرجت، ووقف عليها، ووقع فيها بأغراض أصحابها، ثم قال لي: يا عامي! ما حملك على هذا؟ فقلت: خوف الضجر منها، فقال: لا تعد إلى مثلها! فإنا ما أعطيناهم من أموالنا شيئاً، إنما نحن وكلاء.
ووزر للقائم أبو طالب محمد بن أيوب، وأبو الفتح بن دارست، ورئيس الرؤساء، وأبو نصر بن جهير، وكان قاضيه ابن ماكولا، وأبو عبد الله الدامغاني.

.ذكر خلافة المقتدي بأمر الله:

لما توفي القائم بأمر الله بويع المقتدي بأمر الله عبد الله بن محمد بن القائم بالخلافة، وحضر مؤيد الملك بن نظام الملك، والوزير فخر الدولة بن جهير وابنه عميد الدولة، والشيخ أبو إسحاق، وأبو نصر بن الصباغ، ونقيب النقباء طراد، والنقيب الطاهر المعمر بن محمد، وقاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني، وغيرهم من الأعيان والأماثل، فبايعوه.
وقيل: كان أول من بايعه الشريف أبو جعفر بن أبي موسى الهاشمي، فإنه لما فرغ من غسل القائم بايعه، وأنشده:
إذا سيد منا مضى قام سيد

ثم ارتج عليه، فقال المقتدي:
قؤول بما قال الكرام فعول

فلما فرغوا من البيعة صلى بهم العصر.
ولم يكن للقائم من أعقابه ذكر سواه، فإن الذخيرة أبا العباس محمد بن القائم توفي أيام أبيه، ولم يكن له غيره، فأيقن الناس بانقراض نسله، وانتقال الخلافة من البيت القادري إلى غيره، ولم يشكوا في اختلال الأحوال بعد القائم، لأن من عدا البيت القادري كانوا يخالطون العامة في البلد، ويجرون مجرى السوقة، فلو اضطر الناس إلى خلافة أحدهم لم يكن له ذلك القبول، ولا تلك الهيبة، فقدر الله تعالى أن الذخيرة أبا العباس كان له جارية اسمها أرجوان، وكان يلم بها، فلما توفي ورأت ما نال القائم من المصيبة واستعظمه من انقراض عقبه، ذكرت أنها حامل، فتعلقت النفوس بذلك، فولدت بعد موت سيدها بستة أشهر المقتدي، فاشتد فرح القائم، وعظم سروره، وبالغ في الإشفاق عليه والمحبة له.
فلما كانت حادثة البساسيري كان للمقتدي قريب أربع سنين، فأخفاه أهله، وحمله أبو الغنائم بن المحلبان إلى حران، كما ذكرنا، ولما عاد القائم إلى بغداد أعيد المقتدي إليه. فلما بلغ الحلم جعله ولي عهد، ولما ولي الخلافة أقر فخر الدولة بن جهير على وزارته بوصية من القائم بذلك، وسير عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير إلى السلطان ملكشاه لأخذ البيعة، وكان مسيره في شهر رمضان، وأرسل معه من أنواع الهدايا ما يجل عن الوصف.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في شوال، وقعت نار ببغداد في دكان خباز بنهر المعلى، فاحترقت من السوق مائة وثمانون دكاناً سوى الدور، ثم وقعت نار في المأمونية، ثم في الظفرية، ثم في درب المطبخ، ثم في دار الخليفة، ثم في حمام السمرقندي، ثم في باب الأزج وذرب خراسان، ثم في الجانب الغربي في نهر طابق، ونهر القلائين، والقطيعة، وباب البصرة، واحتراق ما لا يحصى.
وفيها أرسل المستنصر بالله العلوي، صاحب مصر، إلى صاحب مكة ابن أبي هاشم رسالة وهدية جليلة، وطلب منه أن يعيد له الخطبة مكة، حرسها الله تعالى، وقال: إن أيمانك وعهودك كانت للقائم، وللسلطان ألب أرسلان، وقد ماتا، فخطب به بمكة وقطع خطبة المقتدي، وكانت مدة الخطبة العباسية بمكة أربع سنين وخمسة أشهر، ثم أعيدت في ذي الحجة سنة ثمان وستين.
وفيها كانت حرب شديدة بين بني رياح وزغبة ببلاد إفريقية، فقويت بنو رياح على زغبة فهزموهم وأخرجوهم عن البلاد.
وفيها جمع نظام الملك، والسلطان ملكشاه، جماعة من أعيان المنجمين، وجعلوا النيروز أول نقطة من الحمل، وكان النيروز قبل ذلك عند حلول الشمس نصف الحوت. وصار ما فعله السلطان مبدأ التقاويم.
وفيها أيضاً عمل الرصد للسلطان ملكشاه، واجتمع من أعيان المنجمين في عمله منهم: عمر بن إبراهيم الخيامي، وأبو المظفر الإسفزاري، وميمون ابن النجيب الواسطي، وغيرهم، وخرج عليه من الأموال شيء عظيم، وبقي الرصد دائراً إلى أن مات السلطان سنة خمس وثمانين وأربعمائة، فبطل بعد موته. ثم دخلت:

.سنة ثمان وستين وأربعمائة:

.ذكر ملك أقسيس دمشق:

قد ذكرنا سنة ثلاث وستين ملك أقسيس الرملة، والبيت المقدس، وحصره مدينة دمشق، فلما عاد عنها جعل يقصد أعمالها كل سنة عند إدراك الغلات فيأخذها، فيقوى هو وعسكره، ويضعف أهل دمشق وجندها، فلما كان رمضان سنة سبع وستين سار إلى دمشق فحصرها، وأميرها المعلى بن حيدرة من قبل الخليفة المستنصر، فلم يقدر عليها، فانصرف عنها في شوال، فهرب أميرها المعلى في ذي الحجة.
وكان سبب هربه أنه أساء السيرة مع الجند والرعية وظلمهم، فكثر الدعاء عليه، وثار به العسكر، وأعانهم العامة، فهرب منها إلى بانياس، ثم منها إلى صور، ثم أخذ إلى مصر فحبس بها، فمات محبوساً.
فلما هرب من دمشق اجتمعت المصادمة، وولوا عليهم انتصار بن يحيى المصمودي، المعروف برزين الدولة، وغلت الأسعار بها حتى أكل الناس بعضهم بعضاً.
ووقع الخلف بين المصامدة وأحداث البلد، وعرف أقسيس ذلك، فعاد إلى دمشق، فنزل عليها في شعبان من هذه السنة، فحصرها، فعدمت الأقوات، فبيعت الغرارة، إذا وجدت، بأكثر من عشرين ديناراً، فسلموها إليه بأمان، وعوض انتصار عنها بقلعة بانياس، ومدينة يافا من الساحل، ودخلها هو وعسكره في ذي القعدة، وخطب بها يوم الجمعة لخمس بقين من ذي القعدة، للمقتدي بأمر الله الخليفة العباسي، وكان آخر ما خطب فيها للعلويين المصريين، وتغلب على أكثر الشام، ومنع الأذان بحي على خير العمل، ففرح أهلها فرحاً عظيماً، وظلم أهلها، وأساء السيرة فيهم.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة ملك نصر بن محمود بن مرداس مدينة منبج وأخذها من الروم.
وفيها قدم سعد الدولة كوهرائين شحنة إلى بغداد من عسكر السلطان، ومعه العميد أبو نصر ناظراً في أعمال بغداد.
وفيها وثب الجند بالبطيحة على أميرها أبي نصر بن الهيثم، وخالفوا عليه، فهرب منهم، وخرج من ملكه والذخائر والأموال التي جمعها في المدة الطويلة، ولم يصحبه من ذلك جميعه شيء، وصار نزيلاً على كوهرائين شحنة العراق.
وفيها انفجر البثوق بالفلوجة، وانقطع الماء من النيل وغيره من تلك الأعمال من بلاد دبيس بن مزيد، فجلا أهل البلاد، ووقع الوباء فيهم، ولم يزل كذلك إلى أن سده عميد الدولة بن جهير سنة اثنتين وسبعين.
وفي هذه السنة توفي أبو علي الحسن بن القاسم بن محمد المقري، المعروف بغلام الهراس الواسطي، بها، وكان محدثاً علامة في كثير من العلوم.
ويف شعبان توفي القاضي أبو الحسين محمد بن محمد البيضاوي الفقيه الشافعي، وكان يدرس الفقه بدرب السلولي بالكرخ، وهو زوج ابنة القاضي أبي الطيب الطبري، وعبد الرحمن بن محمد بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود أبو الحسن بن أبي طلحة الداودي، راوي صحيح البخاري، ولد سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، وسمع الحديث وتفقه للشافعي على أبي بكر القفال، وأبي حامد الأسفراييني، وصحب أبا علي الدقاق، وأبا عبد الرحمن السلمي، وكان عابداً خيراً، قصده نظام الملك، فجلس بين يديه، فوعظه، وكان في قوله: إن الله تعالى سلطك على عباده، فانظر كيف تجيبه إذا سألك عنهم، فبكى، وكان موته ببوشنج.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن متويه الواحدي المفسر، مصنف الوسيط، والبسيط، والوجيز، في التفسير، وهو نيسابوري، إمام مشهور، وأبو الفتح منصور بن أحمد بن دارست، وزير القائم، توفي بالأهواز، ومحمد بن القاسم بن حبيب بن عبدوس أبو بكر الصفار النيسابوري، الفقيه الشافعي، تفقه على أبي محمد الجويني، وسمع من الحاكم أبي عبد الله وأبي عبد الرحمن السلمي وغيرهما.
وفيها توفي مسعود بن عبد العزيز بن المحسن بن الحسن بن عبد الرزاق أبو جعفر البياضي الشاعر، له شعر مطبوع، فمنه قوله:
يا من لبست لبعده ثوب الضنى، ** حتى خفيت به عن العواد

وأنست بالسهر الطويل، فأنسيت ** أجفان عيني كيف كان رقادي

إن كان يوسف بالجمال مقطع ال ** أيدي، فأنت مفتت الأكباد ثم دخلت:

.سنة تسع وستين وأربعمائة:

.ذكر حصر أقسيس مصر وعوده عنها:

في هذه السنة سار أقسيس من دمشق إلى مصر، وحصرها، وضيق على أهلها، ولم يبق غير أن يملكها، فاجتمع أهلها مع ابن الجوهري الواعظ في الجامع، وبكوا وتضرعوا ودعوا، فقبل الله دعاءهم، فانهزم أقسيس من غير قتال، وعاد على أقبح صورة بغير سبب، فوصل إلى دمشق وقد تفرق أصحابه، فرأى أهلها قد صانوا مخلفيه وأمواله، فشكرهم، ورفع عنهم الخراج تلك السنة.
وأتى البيت المقدس، فرأى أهله قد قبحوا على أصحابه ومخلفيه، وحصروهم في محراب داود، عليه السلام، فلما قارب البلد تحصن أهله منه وسبوه، فقاتلهم، ففتح البلد عنوة ونهبه، وقتل من أهله فأكثر حتى قتل من التجأ إلى المسجد الأقصى، وكف عمن كان عند الصخرة وحدها. هكذا يذكر الشاميون هذا الاسم أقسيس، والصحيح أنه أتسز، وهو اسم تركي، وقد ذكر بعض مؤرخي الشام أن أتسز لما وصل إلى مصر جمع أمير الجيوش بدر العساكر، واستمد العرب وغيرهم من أهل البلاد، فاجتمع معه خلق كثير، واقتتلوا، فانهزم أتسز، وقتل أكثر أصحابه، وقتل أخ له، وقطعت يد أخ آخر، وعاد منهزماً إلى الشام في نفر قليل من عسكره، فوصل إلى الرملة، ثم سار منها إلى دمشق.
وحكى لي من أثق به جماعة من فضلاء مصر: أن أتسز لما وصل إلى مصر ونزل بظاهر القاهرة أساء أصحابه السيرة في الناس، وظلموهم، وأخذوا أموالهم، وفعلوا الأفاعيل القبيحة، فأرسل رؤساء القرى ومقدموها إلى الخليفة المستنصر بالله العلوي يشكون إليه ما نزل بهم، فأعاد الجواب بأنه عاجز عن دفع هذا العدو، فقالوا له: نحن نرسل إليك من عندنا من الرجال المقاتلة يكونون معك، ومن ليس له سلاح تعطيه من عندك سلاحاً، وعسكر هذا العدو قد أمنوا، وتفرقوا في البلاد، فنثور بهم في ليلة واحدة ونقتلهم، وتخرج أنت إليه فيمن اجتمع عندك من الرجال، فلا يكون له بك قوة. فأجابهم إلى ذلك.
وأرسلوا إليه الرجال، وثاروا كلهم في ليلة واحدة بمن عندهم، فأوقعوا بهم، وقتلوهم عن آخرهم، ولم يسلم منهم إلا من كان عنده في عسكره، وخرج إليه العسكر الذي عند المستنصر بالقاهرة، فلم يقدر على الثبات لهم، فولى منهزماً، وعاد إلى الشام، وكفي أهل مصر شره وظلمه.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة ورد بغداد أبو نصر ابن الأستاذ أبي القاسم القشيري حاجاً، وجلس في المدرسة النظامية يعظ الناس، وفي رباط شيخ الشيوخ، وجرى له مع الحنابلة فتن لأنه تكلم على مذهب الأشعري، ونصره، وكثر أتباعه والمتعصبون له، وقصد خصومه من الحنابلة، ومن تبعهم، سوق المدرسة النظامية وقتلوا جماعة.
وكان من المتعصبين للقشيري الشيخ أبو إسحاق، وشيخ الشيوخ، وغيرهما من الأعيان، وجرت بين الطائفتين أمور عظيمة.
وفيها تزوج الأمير علي بن أبي منصور بن فرامرز بن علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه أرسلان خاتون بنت داود عمة السلطان ملكشاه التي كانت زوجة القائم بأمر الله.
وفيها كان بالجزيرة، والعراق، والشام وباء عظيم، وموت كثير، حتى بقي كثير من الغلات ليس لها من يعملها لكثرة الموت في الناس.
وفيها مات محمود بن مرداس، صاحب حلب، وملك بعده ابنه نصر، فمدحه ابن حيوس بقصيدة يقول فيها:
ثمانية لم تفترق مذ جمعتها، ** فلا افترقت ما ذب عن ناظر شعر

ضميرك والتقوى وجودك والغنى ** ولفظك والمعنى وعزمك والنصر

وكان لمحمود بن نصر سجية ** وغالب ظني أن سيخلفها نصر

فقال: والله لو قال سيضعفها نصر لأضعفتها له. وأمر له بما كان يعطيه أبوه، وهو ألف دينار، في طبق فضة.
وكان على بابه جماعة من الشعراء، فقال بعضهم:
على بابك المعمور منا عصابة ** مفاليس فانظر في أمور المفاليس

وقد قنعت منك العصابة كلها ** بعشر إلي أعطيته لابن حيوس

وما بيننا هذا التقارب كله، ** ولكن سعيد لا يقاس بمنحوس

فقال لو قال: بمثل الذي أعطيته، لأعطيتهم ذلك، وأمر لهم بمثل نصفه.
وفيها توفي اسبهدوست بن محمد بن الحسن أبو منصور الديلمي الشاعر، وكان قد لقي ابن الحجاج، وابن نباتة، وغيرهما، وكان يتشيع، وتركه، وقال في ذلك:
وإذا سئلت عن اعتقادي قلت: ما ** كانت عليه مذاهب الأبرار

وأقول: خير الناس بعد محمد ** صديقه وأنيسه في الغار

وفيها توفي رئيس العراقين أبو أحمد النهاوندي الذي كان عميد بغداد، والشريف أبو جعفر بن أبي موسى الهاشمي الحنبلي، ورزق الله بن محمد بن أحمد بن علي أبو سعد الأنباري الخطيب، الفقيه، الحنفي، سمع الحديث الكثير، وكان ثقة حافظاً، وطاهر بن أحمد بن بابشاذ النحوي، المصري، توفي في رجب، سقط من سطح جامع عمرو بن العاص بمصر فمات لوقته، وعبد الله بن محمد بن عبد الله بن عمر بن أحمد المعروف بابن هزارمرد، الصريفيني، راوية أحاديث علي بن الجعد، وهو آخر من رواها، وكان ثقة، صالحاً، ومن طريقه سمعناها. ثم دخلت: